لماذا الذهب ذهبي؟
لماذا تلمع المعادن؟
سيكون الجواب بسيطًا بأن الضوء ينعكس عن الأسطح، ولكن حالة المعادن ليست كذلك، بل يرتبط الأمر بجسيمات صغيرة جدًا ترقص على إيقاع الضوء.
نعلم جيدًا أن المعادن تمتاز بموصلية ممتازة للكهرباء والحرارة، وهذه الصفات ممكنة بفضل الإلكترونات متراخية الارتباط التي تتحرك بحرية حول النواة المشحونة بشحنة موجبة، وعندما تجتمع الكثير من ذرات المعادن معًا لتكوين معدن، تنتج غيمة من الإلكترونات المشحونة بشحنة سالبة قادرة على الحركة بحرية، ويسميها العلماء بحر الإلكترونات.
يسافر الضوء -وهو موجة كهرومغناطيسية وشكل من أشكال الطاقة- برفقة حقل كهرومغناطيسي، فعندما يصطدم بمعدن، يخلق الحقل المغناطيسي تموجًا في بحر الإلكترونات، تمتص الإلكترونات الطاقة من الضوء وتهتز بنفس تردد الضوء الذي امتصت طاقته. وتتوافق الطاقة التي تمتصها معظم المعادن مع الطيف فوق البنفسجي من أمواج الحقل المغناطيسي.
عندما تتفاعل الجسيمات المشحونة مع بعضها تنتج حقلًا، وفي هذه الحالة تُولّد بركة الإلكترونات المشحونة بشحنة سالبة المتحركة بفعل الضوء حقلًا كهربائيًا، ولإبقاء الشحنة الكلية للمعدن صفرًا، تُنتج الإلكترونات موجة ضوئية ثانية (لو لم تفعل، لشعرنا بصعقة صغيرة كل مرة نلمس فيها معدنًا لامعًا).
تصل الموجة الثانية من الضوء المنعكسة عن المعدن إلى أعيننا وتجعل المعدن يبدو لامعًا، والضوء المنعكس خليط من الأطوال الموجية لكل الألوان في الطيف المرئي بنسب مختلفة، وهذا ما يعطي المعادن لمعانها الأبيض المائل للرمادي، باستثناء الذهب والنحاس والسيزيوم.
نسبية أينشتاين وذرة الذهب
الذهب هو العنصر رقم 79 في جدول الدوري للعناصر ويحمل الرمز Au، ونواته مكونة من 79 نيوترونًا مع 79 بروتونًا ما يجعله ثقيلًا جدًا وكثيفًا، وبالنتيجة تُعد الشحنة النووية -أو الشحنة الموجبة المؤثرة على 79 أيضًا من الإلكترونات- عالية، وعلى الإلكترونات بذل جهدٍ عالٍ لتجنب السقوط على النواة نتيجة الجذب الكهروستاتيكي.
بناءً على نموذج بور للذرة، تتحرك الإلكترونات حول النواة في مدارات، وتحافظ على كميات معينة من الطاقة الحركية لتتجنب الانجذاب إلى النواة، كما يحدث إذا ربطت حجرًا بخيط وأدرته بسرعة معينة، سيحافظ الحجر على مسافة معينة من المركز، ولكن في اللحظة التي تتوقف فيها، سيسقط الحجر بشكل دائريً إلى المركز أو يسقط للأسفل.
تدور الإلكترونات حول ذرة الذهب بنصف سرعة الضوء تقريبًا (1.6×10^8 م/ث)، وهنا يتدخل التأثير النسبي، فحسب نظرية النسبية الخاصة (تكافؤ الطاقة مع حاصل ضرب الكتلة بمربع سرعة الضوء E=mc2)، عندما تقترب سرعة أي جسيم من سرعة الضوء يبدأ باكتساب الكتلة، ولذلك تزداد كتلة الإلكترونات 20% تقريبًا.
تقلِّص هذه الزيادة في الكتلة المسار الذي تسلكه الإلكترونات لتدور حول النواة، ويُعرف هذا المسار باسم بـنصف قطر بور يُعطى بالمعادلة الآتية:
نرى في هذه المعادلة أن نصف قطر بور (a0 ) يتناسب عكسًا مع كتلة الإلكترون (me)، إذا ازداد أحد المقدارين تناقص الآخر. وتناقص نصف قطر بور والزيادة في كتلة الإلكترون بسبب الانقباض النسبي هو ما يجعل الذهب يلمع باللون الأصفر بأعيننا.
ومع ذلك، ستخبرك نظرة خاطفة إلى جدول العناصر بوجود حلقة مفقودة في هذه القصة، لأن الكثير من المعادن (كالزئبق والرصاص) أثقل من الذهب، ولكن لمعتها فضية. ولتفسير هذا الموقف المتناقض، نحتاج المنقذ لكل حلقة مفقودة في أفلام الخيال العلمي، ميكانيكا الكم!
الثنائي الديناميكي: النسبيّة الخاصة وميكانيكا الكم
مع ظهور ميكانيكا الكم، تغيرت نظرة العلماء تجاه لون الذهب، فحسب النموذج الكمي ما الإلكترونات إلا جسيمات كمية تظهر عليها الطبيعتان الموجية والجسيمية، وتوجد في غيمة احتمالات، وتُعطينا هذه الغيمة الإلكترونية أو المدار الذري معلومات عن احتمالية وجود إلكترون في منطقة معينة في الفضاء، فإذا كان الإلكترون مثلًا على دراجة هوائية، سيحدد نموذج بور المسار إلى شارع واحد فقط، بينما سيسمح له النموذج الكميّ بالوصول لأي مكان في نطاق رمز بريدي معين.
والآن بالعودة إلى النسبية نرى أن التأثير مشابه لأننا نرى الانقباض النسبي هنا أيضًا، فللذرات مدارات بأشكال مختلفة هي (s ، p ، d ، f). مدار s كروي وتتعرض فيه الإلكترونات لأشد جذب من النواة الموجبة.
وبالنتيجة، كل مدارات s في ذرة الذهب تُقرّب للنواة، ويتقلص مدار 6s الأبعد عن نواة للذهب بنسبة تقارب 17% تقريبًا.
واحتشاد مدارات s أقرب إلى النواة يقلل الجذب المؤثر على المدارات الأخرى التي تتوسع مبتعدةً عن النواة. ما يقلل المسافة بين المدار الأخير 6s والمدار قبل الأخير 5d.
وعندما يسقط الضوء على الذهب، يمتص بحر الإلكترونات تلك الطاقة، وتمتص ذرات الذهب بالتحديد الكمية اللازمة للقفز من المدار الأقل طاقة 5d إلى المدار الأعلى طاقة 6s، وبما أن هذين المدارين أقرب بسبب الانقباض النسبيّ، تمتص الإلكترونات طاقة أقل من التي تمتصها في انتقالات كهذه عادةً.
تنتمي الطاقة التي تمتصها ذرات الذهب إلى منطقة الأزرق والبنفسجي في الطيف المرئي بدلًا من المنطقة فوق البنفسجية، فتتكون الموجة الثانية التي يعكسها المعدن من كل الألوان في الطيف المرئي، باستثناء الأزرق والبنفسجي، وتنتمي الأطوال الموجية المرئية التي تصل أعيننا إلى منطقة الأخضر والأحمر، وعندما يُخلط هذان، ينتج الأصفر!
الخلاصة
لا ينتهي تأثير معادلة الطاقة الشهيرة لأينشتاين على لمعان الذهب، فهو يمنع الذهب أيضًا من التفاعل مع العوامل البيئية ليبقى نقيًا للأبد. وقدرة الذهب على إدخال الضوء المرئي وعكس الأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء جعلته جزءًا أساسيًا في تصميم بذلات الفضاء كالقناع مثلًا. وهو مهمٌ جدًا في مكونات الأقمار الصناعية نظرًا لسماحيته الكهربائية ومقاومته للتآكل الذي تسببه الأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية.
وفي المرة المقبلة التي يقول فيها أحدهم أن نظرية النسبية الخاصة لا تؤثر في حياتنا اليومية، فقط ذكرهم بأنها تبقي مجوهراتنا لامعة وأنظمة تحديد الموقع تعمل.
Enter the text or HTML code here