Políticaسياسة

في ذكرى وفاة محمد عبد العزيز..

.
من قيادي مغمور إلى زعيم طبعت شخصيته تجربة البوليساريو (بورتريه)..
لم يكن زعيم الجبهة الراحل محمد عبد العزيز ليسعد بمقارنته بسلفه مؤسس البوليساريو الولي مصطفى السيد، فقد كان الأخير زعيما سياسيا وشخصية كاريزماتية بامتياز، أتعب خلفه بتفوقه على أقرانه وبتكوينه الأكاديمي ونشاطه السياسي المنقطع النظير، فضلا عن الإجماع الذي حقق لدى مناضلي الجبهة، ليتوج مساره ببذله لروحه فداء للقضية التي نظّر لها وآمن بها، رغم هول المؤامرات التي تعرض لها وحجم خيانات الرفاق التي عجزت غير ما مرة عن زحزحته من موقع زعامة الجبهة، قبل أن يتوفاه الأجل على إثر حادثة مصرعه الغامض في هجوم الجبهة على نواكشوط يونيو 1976..
أما محمد عبد العزيز فلم يكن أول الأمر سوى قياديا مغمورا من قيادات الصف الثاني في البوليساريو، ساقته الصدف إلى تبوء زعامة الجبهة، حين تم استدعاؤه من طرف قطاع جيش الجزائري بتيندوف لاجتياز الخدمة العسكرية أوائل سنة 1974، مباشرة بعد انتقال معسكرات الجبهة الخلفية إلى منطقة تيندوف بجنوب – غرب الجزائر، بمبرر أصوله الجزائرية، قبل أن يتم إرساله على رأس أول دفعة للمتدربين في المدارس العسكرية الجزائرية، ويتم تأطيره لدى أجهزتها الأمنية، بعد أن خاض تجربة الحركة الجنينية بطنطان قبل تأسيس البوليساريو، وشارك في مؤتمر الجبهة التأسيسي بالزويرات، ليعين لاحقا مسؤولا على مكتبها بتيندوف نظرا لخلفيته القبلية الممتدة فيها.
لم يجد محمد عبد العزيز طريق الزعامة مفروشا بالورود، بل واجه تنظيما يعيش على وقع الخلافات والانقسامات السياسية والتجاذبات القبلية والمناطقية، فضلا عن الاستقطابات الإقليمية والدولية، لكنه نجح في اللعب على المتناقضات التي تزخر بها الجبهة، رغم الفراغ الكبير الذي خلفه رحيل الولي مصطفى السيد، مستغلا صراعات العناصر القيادية الرئيسية فيما بينها، حيث وظف العصبيات العشائرية لصالحه، ليضرب المجموعات القيادية بعضها ببعض، كما أفسح المجال للمجموعة القيادية المحسوبة عليه لتصول وتجول في أجهزة البوليساريو، مستخدما إياها كأداة قمعية لتطويع المخالفين وضبط جبهتها الداخلية..
لقد وظف الراحل محمد عبد العزيز لأجل إحكام هيمنته على قرار البوليساريو خلفيته القبلية التي أضفت عليه نواعا من المشروعية التقليدية، كونه ينتمي لمكون ركيبات الشرق، المكون الأكثر انتشارا في مخيمات تيندوف، كما عمل على توزيع المواقع القيادية على مختلف المكونات القبلية الأخرى، خاصة تلك التي المكونات التي تمردت على البوليساريو في أحداث 1988، دون أن يسمح ببروز الشخصيات القيادية الكاريزماتية التي من الممكن أن تنافسه على زعامة الجبهة، والتي من بينها عديد القيادات التاريخية التي رضخ بعضها لزعامته، كما غادر بعضها الآخر البوليساريو أو اختفى في غمرة التغييرات التي يجريها بمناسبة وبدونها.
ورغم حجم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان الصحراوي التي ارتكبت في أثناء زعامته للجبهة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي تكرس مسؤوليته السياسية والأخلاقية عنها، إلا أنه بقي بعيدا كل البعد عن التورط المباشر فيها، حيث لم يرد اسمه في أي من شهادات الضحايا كممارس أو مشرف مباشر على التعذيب والاختطافات والاغتيالات التي شهدتها المخيمات.
بل على العكس من ذلك، فقد حرص على التعبير عن رفضه وامتعاضه إزاء تلك الانتهاكات في عديد المناسبات الرسمية، بما في ذلك تلك المحطات السياسية التي شكلت منعطفات هامة في تاريخ البوليساريو الراهن، كمؤتمريها العامين الثامن والتاسع المنعقدين سنتي 1989 و1991، حيث أعلن تبرؤه من المتورطين فيها، ولكن دون أن يجرؤ على اتخاذ أي اجراء ملموس لمعالجة تبعات الجرائم التي ارتكبت باسم البوليساريو وتحت سلطته، في حين عمل على حماية نفس الجلادين المحسوبين عليه وتكريمهم من خلال تبوؤهم المواقع القيادية، رافضا الرضوخ للمطالب الحقوقية بالكشف عن حقيقة تلك الانتهاكات وعزل المشتبه في تورطهم فيها، فضلا عن تلكؤه ومماطلته إزاء الإعتذار للضحايا وجبر الضرر الذي لحقهم..
أخلاقيا لم يكن محمد عبد العزيز بأحسن قيادات الجبهة ولا بأسوءهم، فزيجاته محدودة وممتلكاته ليست بتلك الكثرة قياسا لبقية القيادات الرئيسية في البوليساريو، لكنه أفسح المجال لحرمه المنتمية إلى نفس مكونه الإجتماعي، المواطنة الجزائرية التيندوفية خديجة حمدي، لتتبوء المواقع القيادية الهامة في الجبهة، وتتمتع بنفوذ منقطع النظير في قطاعات النساء والثقافة والإعلام دخلها، حتى باتت إحدى أهم المرجعيات القيادية في المخيمات، وإحدى المتحكمات في المشهد السياسي للبوليساريو.
لقد تمكن عبد العزيز من تجاوز عديد الأزمات السياسية الخطيرة التي مرت منها البوليساريو، خاصة بعد هيمنته على قرار الجبهة عقب أحداث 1988 التي كادت أن تعصف به، فكان أن أزاح معظم منافسيه وفي مقدمتهم نائبه البشير مصطفى السيد الذي كان بمثابة الزعيم الفعلي للبوليساريو. كما ألغى ما كان يعرف باللجنة التنفيذية التي كانت تزاحمه في قرار الجبهة السياسي، ليحدث مكانها ما بات يعرف في بالأمانة الوطنية، والتي عمل على تمييع دورها الرقابي من خلال توسيعها لتشمل عشرات الأعضاء وفق الحسابات والحساسيات القبلية والمناطقية، ليركز كافة الصلاحيات في شخصه، ويحتكر أدوات التنظيم التي وظفها لشراء الذمم وتدجين المرجعيات الإجتماعية في المخيمات، من شيوخ قبائل وقيادات سياسية ومشايخ التيارات السلفية.
لقد بقي زعيم الجبهة الراحل يدير الأزمات السياسية والأمنية التي تعيش على وقعها البوليساريو طوال عقود من الزمن، دون أن يعمل على إيجاد حلول نهائية لها، ليحافظ على مستوى متحكم فيه من التأزم ويقايض بها مواقف بقية المتدخلين في المنطقة، فيزيد وينقص من منسوب الأزمة بحسب الحاجة. فتارة يطلق العنان للتصريحات السياسية التصعيدية، وأخرى يقدم على اتخاذ بعض الخطوات الميدانية المحدودة، وبين الفينة والأخرى يفسح المجال لتحرك فلول الجماعات المسلحة و مجموعات التهريب وتجارة الممنوعات العابرة للحدود…، مستغلا كافة الخيوط والأدوات السياسية التي بين يديه، حتى صار مثالا حقيقيا للزعامة البدوية الحكيمة التي تحافظ على شعرة معاوية مع الجميع رغم بيئته الاستثنائية.
لكن ما إن توفي محمد عبد العزيز حتى ظهر شبح الفراغ السياسي في زعامة الجبهة مجددا، قبل أن يبدأ مسار أداء البوليساريو في الانحدار المتسارع، على إثر مسلسل الهزائم السياسية والميدانية المتتالية التي تكبدها، بسبب تركيز الصلاحيات والمسؤوليات في يد زعيمها الراحل وغياب الشفافية وتغييب هياكلها التنظيمية فضلا عن ضعف تعمق أزمة مشروعيتها السياسية. ليتوج مسارها بمتابعة زعيمها لدى القضاء الإسباني بتهم خطيرة تهم تورطه في جرائم التعذيب والإختطاف والقتل خارج القانون، بعد أن ضيعت البوليساريو عديد الفرص لمعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان المرتكبة من طرف مسؤوليها، كما ضيعت عديد فرص حل النزاع المفتعل حول الصحراء خدمة لأجندات الدولة الحاضة، طوال فترة زعامة الراحل محمد عبد العزيز.
كونوا_أحرارا..
محمد سالم عبد الفتاح..
نشر بتاريخ 1 يونيو 2021، بتصرف..

Enter the text or HTML code here

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى