صحةغير مصنفمجتمع

الأثرياء الكبار وجائحة كورونا .. عدل “الفيروس التاجي” مجرد وهم

 

أصاب فيروس كورونا المستجد العالم بأسره، لم يعرف حدودا للانتشار، حتى اعتبر فيروسا معولما وعادلا، لأنه لم يعترف بالحواجز والحدود بين الدول، ولم يميز بين عالم متقدم وآخر متخلف، ولا طرق باب جنس أو نوع أو فئة اجتماعية دون أخرى، أصاب الأثرياء والفقراء.. اكتسحت جائحة كورونا دول الشرق وإمبراطورية الغرب، وما اعتبرت في ميزان المنظومة الدولية: دولا سائرة في طريق النمو، قتل رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا وشبابا، ومسّ المرفهين جدا والمسغبين في القاع الاجتماعي على السواء..

لكن حين النبش في التفاصيل سنجد أن تفاعل الأثرياء بالغي البذخ مع فيروس كورونا المستجد يبدو مثيرا للفضول الصحافي؛ فمهما حدث فإن معدلات الإصابة بالفيروس العابر للحدود تبدو طبقية، وليست إصابة بضعة أغنياء العالم سوى ضرب من التعويم الإحصائي لإبراز عدالة فيروس كوفيد 19.

الولوج المتيسر إلى رعاية صحية جيدة، وشروط التنقل ونوع التغذية الحمائية المتوازنة، وظروف الإقامة، توسع الفجوة بين الأثرياء الكبار والفقراء الذي يوجدون في القعر الاجتماعي، من حيث الإصابة بفيروس كوفيد 19، إضافة إلى بعد الوعي مقابل الأمية والجهل، الوفرة في وسائل النظافة والبيئة السليمة، كانت طبيعية أو اجتماعية بين كبار الأثرياء ومن يوجدون في صفوف الطبقات الاجتماعية الأشد فقرا.

فقد تتبعنا فيديوهات نشرت على نطاق واسع في تطبيقات التواصل الفوري وفي وسائط التواصل الاجتماعي، تبرز أحياء شعبية فقيرة لا يبدو أن الحجر الصحي طالها ولا شملتها مقتضيات تقييد الحركة والتنقل في زمن الطوارئ الصحية المعلنة من طرف السلطات العمومية والصحية، من حيث الازدحام المفرط، عدم ارتداء الكمامات، وأطفال صغار يتجولون في الأزقة حفاة. الناس البسطاء يتجولون في أسواق الأحياء المكتظة بالسكان، في غياب أي مسافة للأمان وجهل بلا حدود بشروط الوقاية يدفع إلى الاستهانة بالحياة.

ورغم غياب إحصائيات دقيقة تبرز الفئات الاجتماعية الأكثر تعرضا للإصابة بفيروس كورونا، يمكن أن نخمن بحدسنا فقط ومن خلال مراقبة نوعية الحالات التي رأينا نقلها من أحياء شعبية بالصوت والصورة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أنها ستكون مرتفعة كلما انحدرنا في السلم الطبقي، رغم العدالة التي يظهر بها الفيروس التاجي المعولم.

صحيح أن الأثرياء الكبار هم دوما قلة، لكن شروط العيش والوعي الصحي ووسائل الوقاية والحماية تبدو مصاحبة للطبقات العليا في المجتمع، كما في سائر الأوبئة التي كانت تحصد أرواح الكادحين أكثر مما تحصده من النبلاء.

فقد أصبح أثرياء العالم يقصدون إقاماتهم المجهزة في القرى النائية خوفا من جائحة كورونا المستجد، وباذخو الثراء أصبحوا يقصدون أماكن نائية أشبه بالفراديس الطبيعية عبر طائرات خاصة قد يبلغ معدل الرحلة الواحدة منها أكثر من 20 ألف دولار (ما يعادل 17 مليون سنتيم)، وكيفت العديد من الشركات نشاطها السياحي مع جائحة كورونا، إذ قدمت لزبائنها رحلات خاصة نحو أماكن بعيدة عن اكتساح الفيروس القاتل، مع توفير وسائل السلامة والوقاية الصحية لمن يدفع أكثر من أثرياء العالم الكبار الذين رغم غلق الحدود ومنع حركة الطيران والسير والجولان يقبلون بكثافة على هذه الرحلات التي تقدمها كبريات الشركات السياحية العالمية في زمن الحجر الصحي وحالة الطوارئ لفائدة أثرياء العالم الكبار، من خلال صنع كمامات واقية عالية الجودة وباهظة الثمن، قد يصل سعر الواحدة حسب تقرير أمريكي إلى 100 دولار للكمامة الواحدة، وتوفير وسائل التمريض والتطبيب على طول مسار الرحلة، وكشف يومي لاحتمال الإصابة بالفيروس القاتل.

وقد أوردت صحيفة “تلغراف” البريطانية أنه بالنظر إلى إجراءات إغلاق الحدود التي طبقتها دول عديدة لمنع انتشار الفيروس، فقد قام عدد من المليارديرات برحلات إلى ملذات آمنة، باستخدام طائرات خاصة ويخوت فارهة، في اتجاه ألاسكا وجزر جنوب المحيط الهادي.. وأكدت “تلغراف” استنادا إلى تصريحات الرئيس التنفيذي لشركة “برجيه” لليخوت أنه من المتوقع أن يدفع مستأجرو اليخوت 500 ألف جنيه إسترليني (أي ما يعادل 6.187.624.80 درهما مغربيا) في الأسبوع، عدا تكاليف الطاقم. كما سارع أثرياء العالم الكبار في ظل أجواء غلق العديد من الدول لحدودها إلى استعمال طائراتهم الخاصة أو استئجار خدمات شركات مثل “إيليت جيمس” البريطانية التي تتلقى أكثر من مائة طلب في اليوم لتأجير طائرات خاصة.

يبدو سادة العالم بالغو الثراء أكثر ذعرا، إنهم مستعدون لدفع أي تكلفة مقابل النجاة بأرواحهم من فيروس كورونا المستجد، لذلك قصد العديد منهم الجزر البعيدة التي لم يمسسها وباء كورونا بسوء، وكيفت الفنادق الفارهة التي أضحت مقفرة خدمتها مع الوضع الجديد، إذ ابتدعت خدمة تسمى “فيروس 19″، وهي عبارة عن إقامة فارهة مع اختبار يومي لفيروس كورونا المستجد داخل غرف مجهزة بكل أشكال الراحة، وزيارة دورية للأطباء وحضور ممرضات أنيقات مثل ملائكة الرحمة، بالقرب من مستأجري هذه الخدمات، يلبون طلبات الداعين في كل حين، بهمة ونشاط. وقد يصل ثمن الإقامة لليلة الواحدة إلى ما يفوق أربعة ملايين سنتيم مغربي..وآخرون ممن لم يجدوا إلى التحليق خارج بلدانهم سبيلا، من ذوي الياقات البيضاء، جهزوا إقاماتهم في الأرياف والقرى النائية بأجهزة التنفس الصناعي وبكل ما يلزمهم لضمان رعاية صحية دائمة، وحماية متواصلة من أثر الجائحة التي ضربت العالم.

في نيوزيلندا عملت شركة “راينغ أس”، المعروفة بتصنيعها لملاجئ الأثرياء الكبار تحت اسم “ملاجئ يوم القيامة”، لتهيئ إقامات فارهة بكل مستلزمات العيش الرغد وشروط الأمان الصحي في عمق الأرض، حوالي 11 قدما تحت الأرض. هذه الملاجئ السرية التي تصل تكلفة الواحدة منها ما بين ثلاثة وثمانية ملايير دولار كانت قد امتلأت عن آخرها بالأثرياء الكبار الأمريكيين حسب تصريح المدير العام لشركة “رايينغ آس” التي يوجد مقرها بتكساس..

بل إن بعض الأثرياء الكبار من الشرق الأوسط واليابان والولايات المتحدة الأمريكية اشتروا جزرا معزولة، وصرح كريس كرولو، الرئيس التنفيذي لسوق مبيعات وإيجارات الجزر الخاصة: “إن جزيرة جلادين التي تقع في منطقة بحر الكاريبي تحظى بشعبية خاصة وبإقبال كبير، باعتبارها الجزيرة الأكثر أمانا على هذا الكوكب لأي شخص يرغب في الاختباء من هذا الفيروس الرهيب”، وتبلغ تكلفة الإقامة فيها 2950 دولار لليلة الواحدة دون باقي الخدمات التي توفر الخصوصية الكاملة.

فيما يقضي الفقراء يوميات حجرهم الصحي وسط جهلهم وبؤسهم، في منازل مكتظة، حيث الفقر والخصاص المهول، يخرجون إلى الأزقة بكثافة، يخالطون بعضهم البعض في غياب أدنى شروط السلامة وحفظ الصحة، وحين يتوجه من وجد إلى عمله سبيلا يحافظون على عاداتهم، لا أمان، لا كمامات، لا نظافة، لا وعي صحي، كما في باقي أيام الله يتصرفون، والعديد منهم، لجحيم ما يعيش أو لعدم تقدير الظرف الحرج، يعتبر أن ما عاشاه من بؤس وذل يمنحه مناعة وجودية لمقاومة فيروس كورونا المستجد.. وهذا ما أدخل العديد منهم إلى السجون، ووجد بعضهم أنفسهم من كثرة الاختلاط مصابين بفيروس كورونا وبين فكي الموت..

لا يوجد أي عدل أو مساواة حتى في هذه الجائحة المعولمة، فالوضع الاجتماعي والاقتصادي يلعب دورا كبيرا في التعرض للإصابة بفيروس كوفيد 19، وفي وجود فجوة كبيرة في معدلات انتقال العدوى والوفيات، فالأثرياء الكبار خاصة يهربون إلى فراديس محصنة وبعيدة عن فيروس كورونا، كما يقصدون المنتجعات في القرى البعيدة ويعملون عن بعد بالتكنولوجيا العالية التي يتوفرون عليها؛ فيما يقضي الفقراء حياتهم في أحياء تفتقد للبنية التحتية ويضطرون إلى العمل في بيئة غير سليمة..هنا يجد فيروس كوفيد 19 بيئة منعشة للتكاثر والتناسل المريح.

عبد العزيز كوكاس

هسبريس

 

Enter the text or HTML code here

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى