قال نزار بوش الأكاديمي والباحث السياسي، والأستاذ بجامعة العلوم الإنسانية في موسكو، إن الانسحاب الروسي من خيرسون لم يأت نتيجة الهجوم أو الضغط الأوكراني، كما أن الانسحاب جاء تحسبا لعدة أمور، فهناك تهديد لسد كاخو فسكايا، فلو تم تدميره أو استهداف جزء منه لغرقت المنطقة والجنود الروسي، وهو الهدف الأول لتحريك الجيش، لذلك فالانسحاب مدروس بدقة.
وأضاف خلال مداخلة عبر سكايب بالفقرة الإخبارية على شاشة «القاهرة الإخبارية»، أن روسيا تهيئ نفسها منذ عدة أسابيع للانسحاب من هذه المنطقة، وتم إجلاء السكان حتى لا يقع ضحايا مدنيين، وتم تمكين خطوط الدفاع للجهة اليسرى من النهر، وهي دفاعات محسوبة ومدروسة وتركت روسيا الضفة اليمنى من النهر.
وتابع أن القوات الأوكرانية إذا دخلت هي التي ستكون في خطر، لأنه لا توجد دفاعات جوية تستطيع إسقاط الطائرات الروسية في هذه المنطقة، وإذا تم استهداف السد ستغرق القوات الأوكرانية، وتم تجهيز القوة الدفاعية في روسيا هندسيا طوال هذه الأسابيع الماضية، وهذا الانسحاب في حد ذاته هو انسحاب تكتيكي كما أنه جاء حتى لا تطوق القوات الروسية من القوات الأوكرانية.
فبعد مرور عدة أسابيع من المعارك قرب خيرسون الأوكرانية والتقدم الأوكراني على حساب الروس على الأرض، أمر وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، يوم أمس الأربعاء09-11-2022، قواته بالانسحاب من مدينة خيرسون في جنوب أوكرانيا، واتخاذ مواقع دفاعية على الضفة المقابلة من نهر دنيبرو، فيما قال القائد العام للقوات الروسية، الجنرال سيرغي سوروفكين، إنه “لم يعد من الممكن توصيل الإمدادات إلى مدينة خيرسون”، لافتا إلى أنه اقترح “إقامة خطوط دفاعية على الضفة الشرقية للنهر”.
قرار الانسحاب يمثل واحدة من أكبر عمليات الانسحاب الروسية، وربما يشكل نقطة تحول في الحرب التي تقترب الآن من نهاية شهرها التاسع، والذي جاء بعد إجلاء قوات الاحتلال الروسية حوالي 115 ألفا من سكان منطقة خيرسون، يعتبر هزيمة مدوية لموسكو التي اضطرت إلى الانسحاب من منطقة خاركيف (شمال شرق) في أيلول/سبتمبر الماضي.
كما يأتي أيضا في الوقت الذي أمر فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 21 أيلول/سبتمبر الماضي بتعبئة حوالي 300 ألف جندي احتياط لتعزيز صفوف القوات الروسية. ونشر الآلاف منهم في مناطق القتال.
ماذا جرى في خيرسون؟
خيرسون تُعتبر الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية من بين المناطق التي ضمتها موسكو، إذ تسيطر على كل من الطريق البري الوحيد المؤدي إلى شبه جزيرة القرم، التي انضمت إلى روسيا في عام 2014، وقبل أسابيع، قالت القوات الأوكرانية إنها تحاصر أكثر من ألف جندي روسي في إقليم خيرسون مع اشتداد المعارك، ومنذ أيام أعلنت خيرسون، التي كان يقطنها قرابة 300 ألف نسمة قبل الحرب، أنها “بلا تدفئة ولا إضاءة بعد انقطاع الكهرباء والمياه عن المنطقة المحيطة، وتم تهجير السكان”.
بحسب مختصين، يُعد هذا الانسحاب انتكاسة جديدة لـ “الكرملين”، إذ إن خيرسون كانت أولى الأراضي التي سيطرت عليها القوات الروسية بعد اجتياحها المدينة في الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا، وكانت جزءا من مناطق أوكرانيا التي أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ضمّها في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي.
من جهتها أشارت الرئاسة الأوكرانية مساء أمس الأربعاء، إلى أنها لا ترى في هذه المرحلة “أي مؤشر” على انسحاب القوات الروسية من خيرسون، فيما أمر شويغو بانسحاب القوات الروسية من الضفة اليمنى لنهر دنيبرو(غرب) حيث تقع مدينة خيرسون، لإنشاء خط دفاع على الضفة اليسرى (شرق) للنهر الذي يشكل حاجزا طبيعيا.
“الكرملين” حاول تأجيل هذا الانسحاب لأطول فترة ممكنة لكن الوضع أصبح أصعب لقوات موسكو في مواجهة الجيش الاوكراني المجهز بأسلحة حديثة قدمها الحلفاء الغربيون، وكان الجنرال سوروفيكين قَبل اقتراح الانسحاب، برر ذلك برغبته في حماية أرواح الجنود الروس واتهم القوات الأوكرانية بقصف المدنيين، وذلك كتمهيد للانسحاب.
إقرأ:“أشرس المعارك في خيرسون“.. ما أهمية المنطقة في المواجهات بين روسيا وأوكرانيا؟
هل هو انسحاب تكتيكي؟
قائد القوات الروسية، الجنرال سوروفكين قال في قرار الانسحاب من خيرسون، “سننقذ أرواح جنودنا والقدرة القتالية لوحداتنا. إبقاؤهم على الضفة اليمنى (الغربية) بلا جدوى. يمكن استخدام بعضهم على جبهات أخرى”.
في هذا السياق، فإن وجهة النظر العسكرية الروسية تقوم على أن، انسحاب القوات شيء متوقع ومدروس، حتى لا يقعوا في فخ أوكرانيا، كما أنه بالنظر لخريطة العمليات الأوكرانية الأخيرة، فقد كانت تعمل وفق استراتيجية قطع الإمدادات الرئيسية عن القوات الروسية، وهذا تمت الإشارة له منذ أسابيع، لذلك فإن الانسحاب تكتيكي لوقف نزيف قوة النيران المهدرة للحماية على الجانب الثاني للنهر، بخلاف أن كييف ستطمع وتدخل تلك المنطقة، وعسكريا ستكون قواتها أمام المدفعية الروسية.
أما من وجهة النظر العسكرية الأميركية، فإن الانسحاب هو مهمة تستخدم بانتظام أثناء الدفاع المتأخر لتحقيق الهدف العام المتمثل في استئناف العمل الهجومي، ويجب التعامل معه على أنه تكتيك روتيني وليس نذير كارثة لروسيا، وموجود في عقيدة الجيش الأميركي، وتم تصميمه للسماح لقوة عسكرية بفك الاشتباك مع العدو وإعادة الانتشار في مهمة جديدة أو الانتشار لموقع جديد، وأهميته تكمن في محاولة تقليل الخسائر إلى الحد الأدنى.
أيضا فإن خبراء عسكريين أميركيين، يرون أن أسباب لجوء الروس للانسحاب هي محاولة خداع الأوكرانيين، ولكن ذلك يتطلب من الروس، تكثيف الدوريات، زيادة الدعم الناري ومحاكاة الأنشطة العادية وانضباط الاتصالات، ومن الصعب إبقاءه سريا طوال الوقت.
بحسب الخبراء، بالنسبة للروس فالانسحاب في الضفة الغربية لنهر دنيبرو، سيكون أمرا صعبا ولكنه ليس مستحيلا”، مضيفينَ “لكي يحقق الروس انسحاب آمن، يتوجب عليهم زيادة الدفاع الجوي وعمليات التشويش ونيران المدفعية وتواجد دعم جوي أكبر، لتعطيل قدرات الأوكرانيين من التدخل في الانسحاب”.
أيضا سيحرص الأوكرانيون على تدمير أو الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من القوة الروسية على ضفة دنيبرو، وسيكون له تأثير استراتيجي كبير على نجاح أي هجوم أو استئناف العمليات الهجومية الروسية في المستقبل، بحسب الأميركيين.
لذلك يرى خبراء عسكريون أن هذا القرار لم يكن مفاجئا استنادا إلى عمليات الإجلاء الروسية المتواصلة لسكان خيرسون على مدى أسابيع، وأنه يعكس تراجعا عسكريا روسيا أمام التوغل الأوكراني في المنطقة، فيما يعتبر آخرون أن الانسحاب ربما يشكل تكتيكا روسيا لاستدراج القوات الأوكرانية ونصب الفخاخ أمامها، فيما ذهبت تحليلات لاعتبار ما يحدث ربما مقدمة للعودة لطاولة المفاوضات، خاصة أن الحرب شارفت على نهاية شهرها التاسع وسط مؤشرات قوية تفيد باستحالة حسم الأزمة عسكريا.
دوافع الانسحاب
هناك العديد من الخطوات التي قامت بها القوات الأوكرانية، والتي دفعت قوات روسيا للانسحاب، قصف جسر “أنتونوفسكي” عبر نهر دنيبرو لقطع جزء من المدينة من اتجاه اليوشيكي، وجسر “أنتونوفسكي” هو عبارة عن عبور للمشاة بالسيارة عبر نهر دنيبرو، يربط خيرسون بالضفة اليسرى، على وجه الخصوص، مع مدينة أليوشكي، وتلك النقطة استراتيجية أيضا على النهر للإمدادات.
أيضا القوات الروسية تستخدم نيران المدفعية على طول نهر إنجوليتس، أحد روافد نهر دنيبرو لحماية القوات التي انسحبت بالفعل ظهر اليوم، ونهر دنيبرو كلمة السر الرئيسية في المعارك، فهو على طول 2290 كلم، و”شريان حياة” لأوكرانيا، حيث يؤمن 10 بالمئة من توليد الكهرباء.
كما أن قرار سحب القوات من خيرسون جاء أيضا لأنه في حال استمرار قصف القوات المسلحة الأوكرانية لسد كاخوفكا، يمكن عزل القوات الروسية بشكل سريع، والجنرال سوروفكين اعترف بأن خيرسون والمناطق المجاورة لها، لا يمكن التواجد فيها وتشغيلها بسبب القصف “العشوائي” الهائل للقوات المسلحة لأوكرانيا.
أما من وجهة النظر الأوكرانية، فإن انسحاب موسكو يُعد “دليلا على تلقيها خسائر فادحة”، فروسيا تعاني منذ أسابيع في خيرسون، نتيجة الهجمات المضادة المستمرة من جانب قوات أوكرانيا.
أيضا يرى الأوكرانيون أن هذا ليس انسحابا تكتيكيا، بل لوقف نزيف موسكو في تلك النقطة، خاصة أن كييف تحقق بالفعل انتصارات على الأرض وتعمل الآن على تضييق الخناق على الروس في خيرسون، حيث أن قوات كييف شنت هجمات على خيرسون، أمس الأربعاء، من 3 جهات في وقت واحد، سبقها ما يقرب من 12 محاولة تم صدها من جانب روسيا، وهذه الجبهات شملت، جبهة نيكولاييف إلى خيرسون، وجبهة برافدينو إلى سنيجيريفكا بمنطقة نيكولاييف، وجبهة دودشان على طول الخزان إلى منطقة ميلوفوي.
الأوكرانيون يشيرون إلى أن هذا الهجوم سمح لأوكرانيا في وضع موطئ قدم في الضواحي الشمالية من خيرسون، لافتينَ إلى انسحاب الوحدات الروسية في البداية من تيرنوفي بود وبرافدينو وأليكساندروفكا.
تكتيك “أنياب التنين”
روسيا تتبع خلال انسحابها من مدينة خيرسون استراتيجية أميركية قديمة تقوم على السماح للقوات بفض الاشتباك وإعادة الانتشار، فيما تتبع تكتيك ثالث في ماريوبول المجاورة، يسمى بـ”أنياب التنين”، وفقا لتقديرات خبراء عسكريين.
لمدينة ماريوبول، البالغ سكانها نحو 410 آلاف نسمة، أهمية استراتيجية بالنسبة لروسيا لأنها تسمح لها بالربط بين قواتها في شبه جزيرة القرم وتلك الموجودة في المناطق الانفصالية في إقليم دونباس، كما تُعد خيرسون العاصمة الإقليمية الوحيدة التي سيطرت عليها روسيا منذ بدء هجومها، وسيمثل التخلي عنها انتكاسة كبيرة لموسكو.
فيما يخص معركة ماريوبول بجنوب أوكرانيا، قالت وزارة الدفاع البريطانية، إن روسيا تجهز خطوطا محصنة جديدة في عمق الأراضي التي تسيطر عليها “لمنع أي تقدم أوكراني سريع في حال التطورات، هذا يشمل تركيب حواجز خرسانية تعرف باسم “أنياب التنين” لوقف الدبابات في مناطق من بينها تلك القريبة من ماريوبول في الجنوب للمساعدة في حماية “الجسر البري” الروسي المؤدي إلى شبه جزيرة القرم حتى في حال خسارة موسكو أراضي أخرى أو حدوث اختراقات لجبهاتها العسكرية.
بحسب تقرير المخابرات البريطانية فإن “أنياب التنين”، هي هياكل دفاعية خرسانية هرمية مضادة للدبابات، من المحتمل تركيبها بين ماريوبول ونيكولسكي ومن ماريوبول الشمالية إلى قرية ستاري كريم، تم إرسالها لتجهيز التحصينات الدفاعية في زابوريجيا وخيرسون، حيث أن روسيا تحصن خطوطها في جميع أنحاء مناطق التي تسيطر عليها منذ 19 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كما يتم بناء تلك الحوائط في منطقة لوغانسك أوبلاست أيضا.
أما “معهد دراسات الحرب” فيقول إن القوات الروسية واصلت الاستعدادات الدفاعية في خيرسون، كما تجري دفاعا نشطا وتحاول الاحتفاظ بالمواقع التي سيطرت عليها في جميع أنحاء الإقليم، كما تكشف اللقطات والصور المحددة جغرافيا، الإثنين الماضي، وجود هياكل دفاعية خرسانية روسية في هولا بريستان، على بعد حوالي 8 كيلومترات جنوب مدينة خيرسون على الضفة الشرقية لنهر دنيبرو، وفق المعهد الأميركي.
ماذا بعد الانسحاب؟
بحسب خبراء عسكريين، فإنه من المتوقع أن تكون المعارك بعد الانسحاب من خيرسون كالتالي، تعرض القوات البرية الروسية للهجمات الجوية الأوكرانية والمدفعية في الوقت نفسه، وأيضا تدخل قوي لوحدات الدفاعات الجوية من الجانبين مما سيتطلب تحييدها من طيران الدولتين، كما أن الطائرات بدون طيار الانتحارية وصواريخ الكروز ستلعب دورا كبيرا من الجانب الروسي في مناطق مختلفة لتشتيت القوات الأوكرانية عن الانسحاب التكتيكي.
الخبراء يضيفون، أن الروس بدأوا يخسرون في خيرسون التي باتت كما يبدو تشكل عبئا على القوات الروسية بالمقاييس العسكرية، فيما القوات الأوكرانية تبدو مصممة على المضي قُدما نحو السيطرة على خيرسون واسترجاعها، خاصة في ظل تقدمها الميداني ونجاحها في استعادة مناطق عديدة من المقاطعة.
أما حول التوقيت، فيرى مراقبون، أن التوقيت قد يُفهم منه أن الانسحاب ربما يكون خطوة روسية في سياق الحديث المتواتر عن بدء المفاوضات لوقف الحرب، خاصة في ظل ما سرّبته صحيفة “واشنطن بوست”، عن أن الادارة الأميركية نصحت كييف بإبداء المرونة حول الحوار، وقد يكون الانسحاب الروسي بادرة حسن نية لتشجيع المسار التفاوضي الذي قد يتبلور، رغم أنه من المبكر الآن الحديث عن انطلاقه، لكن يبدو أن الأمور ربما تتجه نحو إنتاج عملية تفاوضية سياسية وبتفاهم روسي أميركي، وإن كان بشكل غير مباشر. قد يشكل الانسحاب الروسي من خيرسون خطوة تهدف لتسجيل نصر لكييف، يسمح لها بالدخول في العملية التفاوضية مجددا.
قد يهمك:ما أهمية خيرسون الأوكرانية في المعركة الفاصلة للغزو الروسي؟
من الملاحظ أن الوقائع على الأرض تعطي مؤشرات على تراجع روسي كبير نتيجة للخسائر الفادحة في صفوفها، وهو ما أشار إليه قائد الجيش الأميركي في تصريحاته، بأنه عدد القتلى من الجيش الروسي قد يصل إلى أكثر من 100 ألف، فيما ستتضح نوايا الروس خلال المرحلة المقبلة، وسيتضح ما إذا كان ما يجري مقدمات للعودة للمفاوضات، أم إيقاف مؤقت للقتال ريثما ينتهي فصل الشتاء.
وكالات
Enter the text or HTML code here